آلاء بدر شاكر السياب: الكويت لم تكن منفى والدي.. بل كانت أملاً

حاورها: ياسين غالب

* هذه كلمتي للتاريخ.. فالتاريخ يصبح شاهدَ زورٍ إن كُتب بأقلام موتورة

* شاعر للإنسانية وليس فقط عراقياً أو عربياً أو إقليمياً.. وقصائده تُدرَّس في جامعات عالمية عدة

* الكويت إحدى المحطات الكثيرة التي زارها طلباً للشفاء.. وشاء الله أن تكون محطته النهائية

* لم يرث أحد عبقرية السياب فهي حكمة وإرادة ربانيتان ليكون السياب هو المتفرد

* اختفت معظم – إذا لم أقل جميع – الصور الفوتوغرافية للوالد التي كانت بحوزتنا فكانت تتسرب تباعاً مع كل مقال أو لقاء صحافي يتناول والدي

* متحف السياب سيجهز إذا كانت النوايا صادقة.. وأنا ضد تجسيد حياة الوالد بدراما تلفزيونية

● السيدة آلاء بدر شاكر السياب، يبدو لي أن تجربتكم مع والدكم بدر شاكر السياب كانت مجتزأة بسبب رحيله المبكر جداً عن الحياة العائلية والساحة الأدبية.. هل يمكن القول إن ما تحفظونه من ذكرى له جاء من الوالدة والأخ غيلان والأخت غيداء؟ بمعنى آخر، هل رسموا لكم صورة حية للوالد السياب، ومنها جاءت تجربتكم معه كشاعر وراحل؟ من خلال حديث الوالدة زوجة السياب (إقبال طه العبدالجليل 1937–2024 ) لها الرحمة كيف رأيت السياب وما الذي لا نعرفه عنه وتودين أن تقوليه حصرياً للقائنا هذا؟

– ولادتي كانت في مرحلة سفر الوالد وبحثه عن العلاج، فذكرياتي شحيحة جداً، خصوصا أني كنت ابنة ثلاث سنوات ونصف السنة، والذكرى الوحيدة التي امتلكها هي وداعنا له أنا وإخواني في مطار البصرة، حين غادر إلى الكويت في رحلته الأبدية.

كانت والدتي – رحمها الله – تروي لنا مدى حبه وعطفه الكبير علينا وكيف أنه كان يعود من عمله محملا بالألعاب وأنواع السكاكر والشوكولاتة. كان يحكي لنا حكايات ما قبل النوم، والتي كانت من وحي خياله، وكان أبطالها بعض أهل قريته من الأقارب والجيران.

بدر شاكر السياب وزوجته السيدة اقبال وابنه البكر غيلان عام 1960

القصائد المغناة

● بافتراض لم تكوني ابنة للسياب، هل كنت ستعجبين وتتأثرين به كشاعر خارج صلة الرحم التي تربطك به، بمعنى صلة الثقافة والأدب فقط؟

– أعتقد أن كل من قرأ للسياب تأثر بشعره المحمل بالشجن والحزن، وهما صفتان لصيقتان بتركيب الشخصية العراقية، فكان شعره ترجمة حرفية لمعاناة بني البشر حيث الظلم والفقر والاضطهاد واستبداد الأنظمة الحاكمة، كل ذلك في صور شعرية محلقة، وبلاغة لغوية جميلة بإيقاع متناغم وخزين معرفي يشكل قيمة فكرية عالية المستوى.

● كعائلة وورثة لحقوق السياب الأدبية، هل تم استئذانكم من قبل محمد عبده عندما غنى «أنشودة المطر» عام 1992؟ وماذا حدث مع كاظم الساهر وسعدون جابر وفؤاد سالم الذي غنى «غريب على الخليج» وكل من لحن أو غنى قصائد السياب؟

- لم يتم الاستئذان حول غناء القصائد لا من قِبل محمد عبده ولا اي مغنٍّ أو ملحن آخر باستثناء الأستاذ كاظم الساهر الذي اتصل بالعائلة وحصل على موافقتنا حول قصيدة «لا تزيديه لوعة»، وبالتالي مسألة الإيرادات أو النسب غير واردة بالتأكيد.

معلومات مغلوطة

● أنحدر من منطقة مناوي باشا، حيث آل السياب لهم منازل كريمة هناك، وحيث نتجاور كعوائل بصرية. وحيث التعايش يقترب بالعلاقات إلى درجة القرابة. تذكر لنا جدتي «نجيبة الضاحي» وهي «مرتلة للقرآن» أنها أحيت عزاء السياب للنساء في البصرة عام 1964، وأن عائلة السياب كانت كبيرة وميسورة الحال. هل يتعارض هذا مع سردية وفاة السياب بفقر ومديونية لإيجار المنزل التابع لمصلحة الموانئ وإبلاغه بإخلائه والكثير مما حكي عن الضائقة المادية في أيام السياب الأخيرة؟

- هناك الكثير من المعلومات المغلوطة والتي نشرت دون تثبت عن قصد أو دونه. الوالد كان موظفا في مصلحة الموانئ العراقية وكنا نسكن داراً تابعة للمصلحة حال جميع الموظفين في تلك المصلحة، ونظراً لسفريات الوالد الكثيرة خارج البلاد من أجل العلاج فقد استنفد جميع إجازاته الاعتيادية والمرضية مما عرضه للفصل، وبذلك توجب إخلاء الدار وفقاً للوائح والقوانين التي تحكم مصلحة الموانئ.

أبرز المؤسسين

● كيف تلمسين تعاطي البصرة وأهلها معكم كورثة لأيقونة اسمها السياب؟ هل هناك حفاوة ما أو افتخار من البصريين بوالدكم – حتى من الناس العاديين ومن هم بعيدون عن الشعر؟ خاصة أن تمثاله شاهد وعلامة في موقع بارز على ضفاف شط العرب، يذكر به كل لحظة. كذلك، برأيك لمَ لَمْ يرث أحد من السياب عبقريته الأدبية وموهبته المتقدمة على زمنها؟

- يحظى اسم السياب بالاحترام والتقدير من عموم البصريين الذين يفخرون به شاعراً بصرياً مجدداً، فهو الذي استطاع ليّ عنق القصيدة العربية القديمة وأبرز مؤسسي الشعر الحر مما مهد الطريق لأجيال أتت بعده.

اما لمَ لَمْ يرث احد عبقرية السياب فهي حكمة وإرادة ربانيتان ليكون السياب هو المتفرد.

اخي غيلان يكتب الشعر بأسلوب عذب قريب جدا من أسلوب الوالد لكنه لا يصنف نفسه شاعراً بل متذوقاً للشعر ربما يعود سبب ذلك إلى أن أبناء المشاهير، لا يُنصفون ونجاحاتهم تنسب لآبائهم وفشلهم كذلك.

شيخوخة جيكور

● ماذا تعني لك بيئات كالبصرة، أبوالخصيب، جيكور كمواقع جغرافية معيشية وكمواقع شعرية خيالية نسجها السياب؟ هل تغيرت الديموغرافية وزالت القيم والخصوصيات القديمة؟ وماذا حل بدلاً عنها، وكيف يؤثر ذلك في تداول أسطورة بدر شاكر السياب الشعرية بين الأجيال القادمة ومدى اهتمامها بتراثه الأدبي؟

- أبدأ من جيكور، فهي المحور الذي تدور حوله كل العناوين التي ذكرت، هي اللب وهي النواة وهي المهد، ومكان ولادة أبي وملعب طفولته ومرتع شبابه.. هي الأم ومثواها وهي احد الأعمدة التي قام عليها شعر الوالد.

بالتأكيد قد تغيرت ديموغرافية جيكور حالها حال مدن وقرى العراق الاخرى، فلم تعد للقرى والمدن سماتها الخاصة، وقد تنبأ الوالد بشيخوخة مبكرة لجيكور، فقد شابت وتغضن وجهها الجميل.

رغم التقدم التكنولوجي الذي يشهده العالم ككل فإن الثقافة في انحدار ملحوظ فقد أصبح اللهاث خلف المادة والاهتمام بترف الحياة هو هم أغلب الناس لذلك

يمكن أن ينحصر اهتمام الأجيال الجديدة بالشعر والأدب بفئة محدودة هم المشتغلون بالشعر والمنشغلون به.

حامل هموم الشعب

● لو تخيلنا أن الشاعر بدر شاكر السياب امتد به العمر ولنقل إنه لا يزال يعيش حياً بيننا وأنه شهد كل حروب وفواجع وحضارات العراق وانهيار الدولة وانحدار منظومة القيم المجتمعية، هل سيكون ثمة تأثير في أدبه الملتزم وكيف سيكون موقفه برأيك؟

- من يحمل هموم شعبه ووطنه لن تغيره السنوات مهما طالت، فبالتأكيد ستكون قصائده ملاحم وطنية وهو القائل في قصيدة «الوصية»:

يا أخوتي المتناثرين من الجنوب إلى الشمال

بين المعابرِ والسهول وبين عاليةِ الجبال

أبناء شعبي في قُراهُ وفي مدائِنهِ الحبيبة

لا تكفروا نِعمَ العراق

خيرُ البلادِ سكنتموها بين خضراءٍ وماء

الشمسُ نورُ الله تغمرُها بصيفٍ أو شتاء

لا تبتغوا عنها سواها

هي جَنةٌ فحذارِ من افعى تدبُ على ثراها

فيا ألقَ النهار

أُ غُمرْ بعسجَدِكَ العراق فإنّ من طينِ العراقِ

جسدي ومن ماءِ العراق

● في زمن الفحولة الشعرية العمودية العراقية والعربية في الخمسينيات من القرن الماضي، حيث كانت شجاعة والدكم الشاعر سبباً في كسر بنية القصيدة العمودية الموروثة منذ زمن امرئ القيس، أقول هذه الشجاعة والمغايرة للموجة العامة غيرت مصير الشعر العمودي إلى شعر التفعيلة والشعر الحر. كانت ثورة ومخاطرة ومواجهة للقديم بكل إرثه. لكن هل تناقض هذا مع انكسارات بدر شاكر السياب الشخصية والحياتية والأزمات الجسدية والنفسية والمادية التي مر بها وأفنت صحته وطاقته؟ ومن أين استطاع هذا البصراوي النحيل، أن يجد القوة لهذا التغيير في عالم الشعر العربي؟

– هنا تكمن عبقرية الشاعر وقوته، فهو درس الشعر الإنكليزي أثناء دراسته في دار المعلمين العالية، وأعجب وتأثر به واستطاع أن يكتب قصيدة جديدة خارج خريطة القصيدة العربية التقليدية، فقد وظف الأساطير الإغريقيّة اليونانية وقصص أقوام عاد وثمود التي وردت بالكتب السماوية، فقد وظف ما سميته انكساراً ليكون قاعدة انطلاق قوية ورصينة غيرت مجرى الشعر العربي.

بيئة الشاعر

● تنتمي أبوالخصيب ديموغرافياً لثقافة وطباع وسوسيولوجيا شعوب الخليج العربي، كما تنتمي مدينة الزبير في البصرة إلى البيئة النجدية. والمفارقة، جاء الشاعر السياب من أبوالخصيب، وجاء الشاعر محمود البريكان المجايل للسياب، ورائد من رواد الشعر من مدينة الزبير. هل يمكن أن يفسر هذا الانتماء الجغرافي والثقافي الحنين الروحي في قصائد السياب للبحر وشواطئ الخليج، ويفسر لجوء السياب إلى الكويت كمنفى اختياري حتى وفاته هناك في المستشفى الأميري في 24 ديسمبر 1964؟ وهل يرى أهل الخليج السياب شاعراً خليجياً أكثر منه عراقياً؟ هل يمكن التحدث عن السياب بصفته إقليمياً، بعيداً عن صفته العراقية والعربية المعروفة؟

– الشاعر ابن بيئته فهو يختزن منها ومن موروثه ليوظف بعد ذلك في نتاجه الأدبي، وبما أن البيئه العربية تكاد تكون متشابهة إلا بعض الخصوصيات البسيطة، والتي لا تكاد تذكر ولا تشكل ذلك الفارق الكبير.

السياب ابن قرية في جنوبي العراق تغفو على ضفاف شط العرب، ودار جده التي يسكن فيها كانت واقعة على أحد الأنهار المتفرعة من شط العرب، لذا لم يكن الخليج الذي جلس عنده في احدى الأمسيات وكتب قصيدته «غريب على الخليج»، أقول لم يكن ذلك الخليج بعيداً عن بيئته والكويت لم تكن منفى اختيارياً بل كانت املا وإحدى المحطات الكثيرة التي زارها طلبا للشفاء وشاء الله أن تكون محطته النهائية.

بدر شاكر ‏السياب على فراش المرض في المستشفى الأميري بالكويت

الشعر كما يؤمن به السياب هو رسالة إنسانية للعالم أجمع، لذا هو شاعر للإنسانية وليس فقط عراقيا أو عربيا أو إقليميا، وكما تعلمون ان قصائده تدرس في جامعات عالمية عدة.

رسالة إنسانية

● كيف وفق السياب بين ثقافته التي اكتسبها عبر دراسته للأدب الإنكليزي والثقافة المحلية في البصرة كميناء مفتوح ومدينة ميتروبوليتان، حيث مرت بها القوى البريطانية كفاتحين وتركوا بصماتهم في البناء والإدارة المهنية للموانئ منذ تأسيس المملكة العراقية في عام 1921؟ وكيف كان السياب يعشق الأدب الإنكليزي ويترجم منه إلى «العربية» ويتأثر به بشدة، في الوقت نفسه كان جزءًا من الحماسة الوطنية وربما القومية المندفعة ضد البريطانيين الذين كانوا يحكمون العراق؟ وكيف كان يقاومهم بشعره الوطني في التظاهرات والمسيرات الطلابية والجماهيرية، رغم كونه عاشقاً للشعر والثقافة الإنكليزية التي اكتسبها من خلال دراسته في دار المعلمين العالية في بغداد؟

– كما سبق أن ذكرت الشعر رسالة إنسانية تتعدى الدول والأعراق، أما مسألة الحماسة الوطنية فهي موضوع آخر، فلا أحد يساوَم على وطنه وشعبه يرتضي الاحتلال، وأن تُعجَبَ وتتأثر بأدب وفن بلد ما لا يعني أن ترتضيه، متحكِّماً بمقدرات شعبك ومحتلاً لوطنك.

ابنتا السياب غيداء وآلاء عند تمثال والدهما على ضفاف شط العرب 1979

● أخيراً، من يُعتبر وريث السياب اليوم؟ وما الكلمة التي تود بنت السياب ان تقولها للتاريخ؟

– لكل شاعر بصمته الخاصة التي لا تشبه الآخر وإن تشابه الأسلوب. هناك ما يميز شاعراً بعينه وقدرته على توظيف المفردة ورسم صوره الشعرية التي تميزه عن غيره، وإلا ما امتازت أسماء بذاتها دون غيرها.

تعرض الوالد لكثير من التأويلات والإسقاطات والافتراءات من بعض أنصاف المثقفين، وأرى أنه يكاد يكون الشاعر الوحيد ممن جايلوه ومن جاءوا بعده من الشعراء الذي تعرض لمشرط الجراحين البائسين فقد حملوا كتاباتهم ودراساتهم تخميناتهم الخاصة وتحليلاتهم النفسية التي أسقطوها على شخصية السياب بل إنهم أصدروا أحكامهم الجائرة حتى على نواياه وفندوها.

هذه كلمتي للتاريخ، فالتاريخ يصبح شاهد زور إن كُتب بأقلام موتورة.

Provided by SyndiGate Media Inc. (Syndigate.info).

2024-07-04T17:43:29Z dg43tfdfdgfd